لبنان.. تجارب جديدة
إثر أحداث أيلول 1970، في الأردن وتداعياتها التي أطلقت انحسار ظاهرة العمل العلني للمقاومة الفلسطينية في الأردن وصولاً إلى انتهائها بعد مواجهات جرش ـ عجلون في تموز 1971، تعزز الوجود العسكري للمقاومة في جنوب لبنان مع استمرار توضعه على جبهة الجولان، وفي هذا السياق توجهت الجبهة الديمقراطية نحو بناء تجربة متجددة في العمل العسكري، مستفيدة من دروس التجربة في الأردن.
فإلى جانب إعادة بناء قواتها المسلحة الثورية وفق تشكيلات فدائية تأخذ بالاعتبار الظروف الخاصة بالجنوب اللبناني، حرصت على إغناء هذه التجربة بسلسلة من التوجهات الإضافية، من بينها الحرص على حماية التشكيلات العسكرية الفدائية في جنوب لبنان عبــر أسلوبين يتكاملان فيما بينهما. الأول: عبــر بناء تشكيلات شبه عسكرية من القادرين على حماية المخيمات والتجمعات السكنية الفلسطينية على مختلف انتماءاتها الاجتماعية، تستدعى لحمل السلاح دفاعاً عن المخيمات ضد مخاطر الاعتداءات الإسرائيلية، ولتعزيز مواقع «القوات المسلحة الثورية» في حالات التأهب في مواجهة الاجتياحات والتوغلات العسكرية الإسرائيلية في جنوب لبنان. الأسلوب الثاني: العمل على نسج علاقات إيجابية مع القوى الوطنية اللبنانية على قاعدة الكفاح المشترك ضد العدو الإسرائيلي، وفي سبيل الدفاع ـ جنباً إلى جنب ـ عن أرض الجنوب، والتصدي في الوقت نفسه لسياسات الحكومة اللبنانية في التضييق على العمل المسلح الفلسطيني وجره إلى صدامات جانبية.
لقد كتبت «القوات المسلحة الثورية»، وإلى جانبها تشكيلات الميليشيا الشعبية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، على الأرض اللبنانية تاريخاً مجيداً.
فقد نفذت العديد من العمليات البطولية، اجتازت خلالها الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، وتوغلت في الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وأوقعت في صفوف العدو خسائر فادحة، مازال الجانب الإسرائيلي يذكرها بحقد شديد ضد الجبهة الديمقراطية وتشكيلاتها العسكرية. من أهم هذه العمليات، على سبيل المثال، لا الحصر، عملية معالوت (ترشيحا)، عملية مستوطنة شيرشرف، عملية بيسان، عملية طبــريا، عمليتي القدس الأولى والثانية.. الخ.
كما لعبت «القوات المسلحة الثورية»، إلى جانب باقي منظمات الجبهة وتشكيلاتها شبه العسكرية دوراً بارزاً في الدفاع عن البــرنامج المرحلي خلال عامي 73 ـ 74 وشق الطريق أمامه وتعميده بالدم؛ باعتباره بــرنامجاً كفاحياً، يتطلب تحقيقه نضالات صعبة وشاقة في كافة الميادين العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية، وتقديم التضحيات الغالية في مواجهة العدو وآلة حربه.
كذلك لعبت «القوات المسلحة الثورية» دوراً بارزاً في دعم العمل الفدائي وإسناده ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الفلسطينية والقدس وقطاع غزة. في هذا المجال يسجل «لقوات الإسناد» (أحد تشكيلات «القوات المسلحة الثورية») دورها المميز في التواصل مع مجموعات العمل المسلح داخل الأرض المحتلة ومدها بالسلاح والعتاد والخبــرات وكل مستلزمات العمل الفدائي في المناطق المحتلة.
كما شكلت «القوات ا لمسلحة الثورية» الدرع الواقي للمخيمات الفلسطينية ضد الأعمال العدوانية الإسرائيلية والمحلية. ولعبت دوراً مسانداً للقوى الوطنية اللبنانية في معارك الدفاع عن مناطق حضورها إبان حرب السنتين (1975 ـ 1976). كما خاضت «القوات المسلحة الثورية» قتالاً بطولياً في الدفاع عن المخيمات والتجمعات السكنية الفلسطينية لاسيما في مخيمات تل الزعتر، وجسر الباشا، وضبية، وتجمع بــرج حمود والنبعة.
وعندما اجتاحت القوات الإسرائيلية الجنوب اللبناني في منتصف آذار (مارس) 1978، لعبت القوات المسلحة الثورية دوراً فعالاً في التصدي للعدوان الإسرائيلي على كل الجبهات. فاستنفرت كل قطعاتها العسكرية، وبإسناد مميز من قوات الميليشيا الشعبية، وخاضت على محاور القتال المختلفة معارك بطولية قدمت فيها خيرة قادتها ومقاتليها شهداء وجرحى، في نموذج مميز، استطاعت من خلاله أن تقدم صورة مشرفة للحالة المعنوية العالية التي تستند إليها القوات المسلحة الثورية، وللجهوزية العسكرية المتقدمة التي تتمتع بها، رغم الفارق الكبير بينها وبين العدو الغازي، إن في العدد أو في العدة.
وعندما حاول العدو أن يستقر على خطوط التماس في جيب صور، وعلى محاور النبطية، انتقلت القوات المسلحة الثورية من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، فشنت العديد من العمليات الفدائية خلف خطوط العدو وعلى جنباته، موقعة في صفوفه الخسائر الفادحة.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي إلى خطوط ما يسمى آنذاك بالشريط الحدودي المحتل، تقدمت القوات المسلحة الثورية لتحتل مواقعها المتقدمة على خطوط المواجهة، تنطلق منها في أداء مهماتها القتالية ضد مواقع العدو وعملائه المحليين، وفي التسلل إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتوفير ضرورات الإسناد للخلايا المقاتلة داخل الضفة الفلسطينية وقطاع غزة.
وأخيراً، وليس آخراًن احتلت «القوات المسلحة الثورية» موقعها المتقدم في معارك التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. فخاضت معارك مشرفة في النبطية وقلعة الشقيف ومنطقتي صور وصيدا ومخيماتهما، وعلى محاور الناعمة ـ الدامور ـ خلده. كما سطرت ملاحم بطولية في الدفاع عن العاصمة اللبنانية بيروت في مواجهة الحصار الإسرائيلي الذي دام أكثر من تسعين يوماً. وفي الوقت نفسه كانت تشكيلاتها في الجبل والبقاع تشن هجماتها الفدائية، ضد مؤخرة العدو وعلى جوانبه، وتوقع في صفوفه إصابات فادحة، في معارك مشاغلته ومحاولة تشتيت قواته لتخفيف الضغط عن مدينة بيروت المحاصرة.
وفي كل معاركها قدمت «القوات المسلحة الثورية» تضحيات كبــرى، فاستشهد لها عدد كبير من ضباطها وصف ضباطها ومقاتليها، مازالت أسماؤهم تلمع كالكواكب الساطعة في تاريخ النضال الوطني