و بسبب الاختلاف القائم بين الإسلام و الماركسية. هل يوجد بينهما عداء ؟ و هل يصح أن يوجد ذلك العداء بين الإسلام و الماركسية ؟
انه و كما قلنا من خلال الفقرات السابقة، فإن الشروط التي حكمت ظهور الإسلام، و ظهور الماركسية تختلف، و المستهدف هو الإنسان وسعادته الدنيوية و الأخروية، أو إعداده لحمل وعيه الذي يؤهله لتحقيق مجتمع حر و ديمقراطي و اشتراكي.
و إذا أمعنا النظر فإننا نجد أن هدف الإسلام إلى تحقيق سعادة الإنسان الدنيوية التي يسميها الكرامة "و لقد كرمنا بني آدم" لوجدنا أنها تتحقق في الحرية لا في الاستعباد، و في الديمقراطية لا في الاستبداد، و في الاشتراكية لا في الاستغلال. أما السعادة الأخروية، فذلك شأن الإنسان مع خالقه، و هو ما لم يثبت أن الماركسية حشرت نفسها فيه. و إذا حصل ذلك، فإنه يعني أن الماركسية تفقد علميتها و تتحول إلى خطاب أسطوري. و مادام الأمر كذلك، فإن العداء المزعوم بين الإسلام و الماركسية غير وارد. و إذا حصل فإنه يكون بين الماركسية و المستبدين الذين يحولون الإسلام إلى إيديولوجية، و حينها لا تعادي الماركسية الإسلام بقدر ما تعادي الطبقة المستغلة التي تؤدلج الدين الإسلامي. و هذه العداوة موضوعية مادامت تدخل في إطار ممارسة الصراع الطبقي في مستواه الأيديولوجي و السياسي و التناحري.
و هكذا نجد أن الإسلام لا يعادي الماركسية، و الذي يعاديها هو ادلجة الدين الإسلامي المرتبطة بمصلحة الطبقة التي توظف مؤدلجي الدين الإسلامي، و هو ما يعجز عن إدراكه عامة الناس و يعتبرون أن الماركسية تهاجم الإسلام، و هي في الواقع لا تهاجم إلا ادلجة الدين الإسلامي باعتبارها إيديولوجية الطبقة الحاكمة المستبدة، أو التي تطمح إلى الوصول إلى السلطة من اجل ممارسة الاستبداد على المقهورين و المستلبين، و سائر الطبقات الشعبية ذات المصلحة في التغيير و إلا فلماذا نجد تجاوب المسلمين في بداية القرن العشرين بمن فيهم علماء الدين الإسلامي و فقهاؤه مع الفكر الماركسي، و مع الحركات الماركسية لا لشيء إلا:
1) لكون الماركسية تعبر عن المصلحة الطبقية التي كان المسلمون الكادحون يحسون بها عندما كان الاستعمار الرأسمالي البغيض جاثما على بلاد المسلمين.
2) لكون الحركات الماركسية تصارع النظام الرأسمالي العالمي على جميع المستويات، و تدعم حركات التحرر في جميع بلدان المسلمين من اجل مقاومة الاستعمار و دحره، و الانتصار عليه، و إقامة الدولة الديمقراطية المتحررة و العادلة.
و التجاوب مع الماركسية في ذلك الوقت لم يكن بدافع التمركس كما قد نفهم، بل بسبب الحاجة إلى الدعم الماركسي في الصراع مع النظام الرأسمالي الاستعماري.
و هل يصح أن تعادي الماركسية الإسلام ؟ إن الماركسية لم تتواجد لتعادي الأديان بصفة عامة، و الأديان السماوية بصفة خاصة، و الدين الإسلامي بالخصوص، بل اعتبرتها جزءا من معتقدات الشعوب، و احترمتها لهذه الغاية، و تركت الناس يمارسون الطقوس التي لها علاقة بمعتقداتهم، و تركت المسلمين يمارسون شعائرهم بكامل حرياتهم في اعظم دولة ماركسية في القرن العشرين، كما تدل على ذلك الوقائع و الأحداث. و كما قلنا فإن الدين أي دين عندما يتحول إلى إيديولوجية الطبقة المستبدة، أو أي طبقة تسعى إلى فرض الاستبداد فإن الماركسية تسعى إلى ممارسة الصراع الإيديولوجي إلى جانب الصراع السياسي و التناحري كمظاهر متكاملة للصراع الطبقي، و إلا فإن الماركسية لن تكون علمية، و ستفقد قيمتها كمنهج للتحليل و كإيديولوجية توظف لتهيئ الطبقة المقهورة لتحقيق الحرية و الديمقراطية و الاشتراكية و هي أهداف متكاملة.
لذلك نجد أن الإسلام عندما يبقى دينا للشعوب المؤمنة به، تمارس شعائره، و تتشبع بقيمه، فإنه يكون مساعدا على تحقيق الأهداف الاشتراكية التي لا تتناقض أبدا مع روح الدين الإسلامي المتجسدة في المثل العليا التي دعا إليها الله تعالى. تلك المثل التي تلعب دورا كبيرا في حفظ كرامة الإنسان في علاقته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية و هو ما تسعى الماركسية إلى تحقيقه عن طريق المجتمع الاشتراكي.
و هذه الخلاصة التي وصلنا إليها في تحليلنا تقودنا إلى طرح السؤال : هل يصح أن تنسحب المقولة الماركسية "الدين أفيون الشعوب" على الدين الإسلامي ؟ إن هذه المقولة لم تأت من منطلق معرفة ماركس و انجلز بجميع الأديان بما فيها الدين الإسلامي الذي ثبت انهما كانا يجهلانه، و لم يبدآ في التعرف عليه إلا في أواخر حياتهما، و لو تعرفا عليه منذ البداية لدفعتهما علميتهما إلى القول بأن الإسلام ليس كالمسيحية بمذاهبها المختلفة، بل يسعى إلى العمل على بث نوع من الوعي المتقدم الذي يسعى إلى حفظ كرامة الإنسان. و لذلك نعتبر أن مقولة "الدين أفيون الشعوب" لا تنطبق إلا على الأديان المؤدلجة التي تعمل على تدجين البشر و تخديره لصالح الطبقة الحاكمة، بخلاف الدين الإسلامي الذي يرفض ذلك التدجين، و يستحضر حق الإنسان في التعبير عن رأيه باعتبار ما يكون عليه واقعه الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي كما توحي بذلك الآية الكريمة "و أمرهم شورى بينهم" بالإضافة إلى إخلاص العبادة لله دون سواه " و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا" و قوله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" و لكن عندما يتحول الدين الإسلامي إلى أيديولوجية، و تتحول قداسة الله إلى قداسة الأشخاص، و يعمم الشرك بالله و يصبح الإسلام وسيلة لتدجين البشر لخدمة مصلحة طبقية معينة و تصبح كرامة الإنسان مهدورة، و ينقلب الوعي الذي ينشره الإسلام إلى وعي زائف، و تتحول قيم الدين الإسلامي الحقيقية إلى قيم تقوم على سيطرة طبقية معينة، فإن مقولة "الدين أفيون الشعوب" تنسحب على ادلجة الدين الإسلامي نظرا لدور تلك الادلجة في تخدير المسلمين، و جعلهم يعتقدون أمورا لا علاقة لها بالإسلام الذي يقر بتحريف الديانات السابقة كما جاء في قوله تعالى " و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله". و لو كان الوحي مستمرا في النزول لاعتبر ادلجة الدين الإسلامي تحريفا له. و على هذا الأساس فالماركسية بتحليلها العلمي لم تعاد الأديان كأديان بل إن عدائها لأديان معينة يستهدف ادلجة تلك الأديان بالخصوص و دور تلك الادلجة في تخدير الناس و تدجينهم لصالح الحاكمين و انطلاقا من كون الماركسية تستهدف التحريف الذي لحق الأديان بما فيها إمكانية تحريف الدين الإسلامي عن طريق الادلجة. هل نعتبر أن الماركسيين ظلموا المسلمين في دينهم ؟ إن الماركسية لا تكون إلا بكونها علمية، تعتمد التحليل الملموس للواقع الملموس، و ما تتوصل إليه تشهره، لا تخشى في ذلك لومة لائم. فموضوعيتها في علميتها، لذلك يعاديها الإقطاعيون و البورجوازيون، و الشرائح المتقدمة من البورجوازية الصغرى. نظرا لدور التضليل في خدمة المصالح الطبقية لهؤلاء، و التضليل يتم التوصل إليه عن طريق ادلجة الأديان. لذلك فالماركسيون لم يظلموا المسلمين بقدر ما يسعون إلى بث الوعي في صفوفهم عن طريق العمل على بث الوعي الذي لا يواجه الأديان بقدر ما يقود إلى مقاومة الاستغلال الطبقي في مجموعة من المستويات من بينها المستوى الأيديولوجي. فالماركسية كأيديولوجية علمية لا تواجه إلا الأيديولوجية المناقضة لها. و لا تواجه الدين إلا عندما يتحول إلى أيديولوجية، و هي بذلك تنفي عن الماركسية كونها معادية للأديان باعتبارها معتقدات للشعوب بما فيها الإسلام. كما تنفي عن الماركسيين كونهم يعادون المسلمين في كونهم يظلمونهم.
و بناء على ذلك هل يظلم المسلمون الماركسية و الماركسيين عندما تنتشر بين صفوفهم تلك العداوة التي تكاد تكون مطلقة للماركسية و الماركسيين ؟ إن علينا في هذا الإطار أن نميز بين مستويين :
المستوى الأول : هو كون معاداة الماركسية و الماركسيين هي إنتاج أيديولوجي يقوم به المتنبئون الجدد الذين يوظفون الدين الإسلامي لخدمة المصالح الطبقية للطبقة المستبدة بالسلطة أو التي تسعى إلى الاستبداد بالسلطة. و هؤلاء المتنبئون الجدد في دعواهم المغرضة يظلمون الماركسية كما يظلمون الماركسيين خاصة عندما يلحقون بهم أوصافا يندى لها الجبين، و نتحاشى إدراجها في هذه المعالجة.
و المستوى الثاني : هو المسلمون الذين تنتشر في صفوفهم الأمية، و يقعون ضحايا للتضليل الأيديولوجي الذي يمارسه المتنبئون الجدد من اجل إبعادهم عن امتلاك الوعي الطبقي الحقيقي و التخلص من الوعي الزائف الذي يبثه المتنبئون الجدد في صفوف المسلمين، و بلا هوادة لاحكام القبضة عليهم، و إقامة سد منيع بينهم و بين الوعي الحقيقي الذي يبعدهم عن التفكير في عذاب القبر و عذاب جنهم، و حوار الجن، و اللجوء إلى السحر و إلى المشعوذين من اجل التماس الخلاص من الغيب، و الدفع في اتجاه الارتباط بالواقع، و تحليله، و فهمه و العمل على تغييره بمقاومة تضليل المتنبئين الجدد، و مناهضة الاستغلال الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و المدني و السياسي، و العمل على إقامة نظام بديل باختيارات ديمقراطية و شعبية تتناسب مع روح ما تهدف إليه الماركسية مما لا يتناقض مع روح الدين الإسلامي الحنيف.
و التمييز بين هذين المستويين يعتبر ضروريا لتحديد هل يقوم المسلمون بظلم الماركسية و الماركسين ؟ إن الذي يتبين من وراء هذا التمييز هو أن المسلمين لم يمارسوا و لن يمارسوا ظلم الماركسية و الماركسيين، بل من يقوم بذلك هم المتنبئون الجدد، و يصدرون الفتاوى المحرضة على القتل، بل و ينظمون الاغتيالات باستمرار، و القائمة في هذا الإطار طويلة، و يدخلون ضمنها حتى المفكرين المتنورين بدعوى إهانة الدين الإسلامي، فكأن الدين الإسلامي لا يستطيع أن يصمد أمام ما يستهدفه، و كأنهم رسل يتلقون الوحي من عند الله، و هو ما لم يحصل و لن يحصل. فالمتنبئون الجدد يدركون جيدا مدى خطورة الوعي الحقيقي على الطبقة المستبدة بالحكم، أو على الطبقة التي تسعى إلى الاستبداد بالحكم. لذلك نجدهم ينظمون سلسلة من الاغتيالات في كثير من بلاد المسلمين في إفريقيا و في آسيا و أوربا. و من هؤلاء الذين طالتهم عملية الاغتيال التي ينظمها المتنبئون الجدد و من يقف وراءهم الشهيد عمر بنجلون و الشهيد مهدي عامل، و الشهيد حسين مروة، و الشهيد سهيل طويلة، و الشهيد فرج فودة و غيرهم ممن طالتهم أيادي مؤدلجي الدين الإسلامي في كل مكان من العالم ما لم يكونوا من أعداء الإنسانية من أمثال الصهاينة ، و الفاشستيين، و كبار المستغلين الدين يلحقون الأذى بالمسلمين الفقراء و المعوزين، و حتى هؤلاء لا يجوز قتلهم إلا بالحق، و في إطار مشروعية الصراع الطبقي.و هؤلاء المتنبئون الجدد و من يقف وراءهم يشملهم قول الله تعالى " و من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا". و يعتبر هؤلاء في ممارستهم غير ممتثلين لقوله تعالى " و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" و كلمة "النفس" في الآيتين تدل على أن عملية القتل المحرمة إسلاميا و إنسانيا و حتى ماركسيا تعم جميع الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، مسيحيين أو يهود أو لا دين لهم، و أن الذين تم اغتيالهم على يد المتنبئين الجدد و من يقف وراءهم، أو بتوجيه منهم هم من المسلمين كعمر بنجلون، و مهدي عامل، و حسين مروة، و فرج فودة، و صبحي الصالح و آخرون كثيرون. و لذلك فعملية الاغتيالات التي ينظمها هؤلاء تدخل في إطار الاغتيالات السياسية التي لا يلجأ إليها إلا من يعجز عن الإقناع لتدني فكره و تخلف أيديولوجيته و عجزه عن الإبداع الفكري و النظري مما يتناسب مع ما وصلت إليه البشرية من تطور. فهؤلاء مهووسون بالبحث في بطون الكتب التي يسمونها إسلامية عن المبررات التي يدعمون بها سلسلة الاغتيالات التي يقومون بها لاعطاء الشرعية لممارستهم المنبوذة إسلاميا، و ماركسيا، و أخلاقيا، و إنسانيا.
و ما دام العداء بين الإسلام و الماركسية منتفيا، و مادام ظلم المسلمين للماركسيين، و ظلم الماركسيين للمسلمين منتفيا و غير وارد. هل نعتبر أنفسنا كمسلمين في حاجة إلى إسلام ماركسي على غرار اللاهوت المسيحي الماركسي في أمريكا اللاتينية ؟
إننا بوصولنا إلى طرح هذه الإشكالية على المحك سنحاول أن نجعل الماركسية إسلامية، أو نجعل الإسلام ماركسيا. و هذا أمر غير وارد، لأنه سيؤدي إلى تحريف كل منهما عن مساره و هو أمر يقتضي منا التفصيل. فالإسلام له مجاله المختصر في الدعوة إلى إخلاص العبادة لله دون سواه مع بناء منظومة القيم المستمدة من الكتاب و السنة، و سيرة محمد صلى الله عليه و سلم، و سائر الأنبياء و الرسل من الذين وردت قصصهم في القرآن. تلك المنظومة التي يمكن تكريسها في المجتمع العبودي، أو المجتمع الإقطاعي، أو في المجتمع الرأسمالي، أو في المجتمع الاشتراكي، باعتبارها مجتمعات تتحدد هويتها بناء على علاقات الإنتاج القائمة فيها أو على العقيدة التي يعتقدها أفراد تلك المجتمعات.ولذلك فالمجتمع الذي تسعى إلى تحقيقه الماركسية قد يكون أفراده مسلمين، و قد يكونون غير ذلك. و الماركسيون الذي يسعون إلى تحقيق المجتمع الاشتراكي قد يكونون مسلمين أو غير مسلمين. فالإسلام عقيدة تكسب الإنسان هوية لها علاقة بالعقيدة فقط، و التي يترتب عنها التشبع بمنظومة القيم الإنسانية المستمدة من الكتاب و السنة. و لذلك فالإسلام ليس في حاجة إلى أن يتحول إلى إسلام ماركسي حتى يبني منظومة القيم تلك لأن الماركسية لا تمنع من ذلك، و كذلك الشأن بالنسبة للماركسية باعتبارها أيديولوجية علمية، و مذهبا اقتصاديا و اجتماعيا يسعى إلى تغيير علاقة الإنتاج الاستغلالية إلى علاقات الإنتاج الاشتراكية. و هو سعي لا علاقة له بالعقيدة لأنها من شأن حامليها الذين من حقهم أن يمارسوا طقوسهم، أو شعائرهم بكامل الحرية في ظل تحقق المجتمع الاشتراكي. و لذلك أيضا فالماركسية ليست في حاجة إلى أن تكون إسلامية، لأن ذلك يعني تحريف الماركسية عن مسارها الاشتراكي العلمي الصرف، و لا داعي للحدو حدو اللاهون المسيحي الأمريكي اللاتيني الذي خالف الكنيسة و شرع في بناء منظومة من القيم التي تساعد على قيام الماركسية بدورها. فالإسلام ينشر تلك القيم منذ أن ظهر إلى يومنا هذا، و لم يتناقض قط مع أي منظومة اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية تسعى إلى حفظ كرامة الإنسان و ما يظهر لنا انه يدخل في إطار التناقض بين الإسلام و الماركسية، ما هو إلا اختلاف من قبل المتنبئين الجدد الذين يوظفون الدين الإسلامي كأيديولوجية لصالح الطبقات المستغلة. فالتناقض في الواقع ليس بين الماركسية و الإسلام بل بين الماركسية و الطبقة المستغلة و هو ما يؤكده الواقع شاء المتنبئون الجدد أم أبوا.