أصبحت فكرة "التطور" هذه الأيام مقبولة إجمالا، على الأقل من طرف المثقفين. فأفكار داروين، الثورية في أيامه، هي الآن مقبولة تقريبا على أنها من البديهيات. لكن رغم ذلك يفهم التطور عموما على أنه مرحلة بطيئة ومتدرجة دون مقاطعات وانقلابات عميقة. وكثيرا ما يستعمل هذا النوع من البراهين في السياسة كتبرير للإصلاح. لكنه لسوء الحظ مبني على سوء فهم. فالآليات الحقيقية للتطور وحتى اليوم تبقى كتابا مختوما بأختام قاسية . لكن لا يمكن اعتبار هذا مثيرا للدهشة بما أنه حتى داروين نفسه لم يكن يفهمها. لقد تم التدليل على أن التطور ليس بمراحل متدرجة، فقط في العشرية الأخيرة تقريبا، مع اكتشافات ستيفن غولد Stephen J. Gould الجديدة في مجال علم الأحافير palaeontology والذي اكتشف نظرية التوازنات المنقطة punctuated equilibria . فهناك فترات طويلة لا يُلحظ فيها أي تغير مهم، لكن في لحظة ما، يُحطم خط التطور بانفجار، ثورة بيولوجية حقيقية مميزة بالانقراض الجماعي لبعض الأنواع والبروز السريع للبعض الآخر.
التشابه بين المجتمع والطبيعة، بالطبع، هو فقط تقريبي، لكن حتى اختبارات التاريخ الأكثر سطحية تظهر أن التأويلات التدريجية لا أساس لها من الصحة. فالمجتمع ،مثل الطبيعة، يعرف فترات طويلة من التغير التدريجي البطيء لكن هنا أيضا يقطع الخط عبر تطورات قابلة للانفجار مثل الحروب والثورات التي تعجل بصفة بالغة في مراحل التغيير. في الحقيقية، إن هذه الأحداث هي التي تعمل كمحرك أساسي للتطور التاريخي أما الأسباب الجذرية للثورة فتتمثل في حقيقية أن نظاما سياسي-اقتصادي ما بلغ حدوده ولم يعد قادرا على تطوير القوى المنتجة كما في السابق.
يقول بيان الحزب الشيوعي في إحدى أشهر أجزائه: "إن تاريخ كل الطبقات الموجودة إلى حد الآن هو تاريخ صراع الطبقات" لكن ما هو صراع الطبقات؟ إنه ليس بأكثر ولا أقل من الصراع من أجل قسمة الفائض الذي تنتجه الطبقة العاملة. ولن يكون أبدا بالإمكان تفادي هذا الصراع حتى تبلغ القوى المُنتجة مستوى كاف من التطور يسمح لها بإلغاء الفقر ونقص الإنتاج، ليس فقط للأغلبية المتميزة، لكن لكل شخص. الشيوعية إذا ليست بمجرد "فكرة جيدة" يمكن خلقها في أي حالة طالما أراد الناس ذلك. الشيوعية كقاعدة مادية مبنية على درجة التطور الصناعي والفلاحي والعلمي والتكنولوجي.
لقد سبق لماركس أن شرح في الإيديولوجيا الألمانية سنة 1845 إلى 1846 أن "... هذا النمو لقوى الإنتاج (الذي يتضمن الوجود التجريبي الحالي للإنسان في عالمه التاريخي، عوضا عن المحلي، أي الوجود) هو فرضية عملية ضرورية للغاية لأنه بدونها تصبح الحاجات مجرد عموميات، ومع الحرمان سيبدأ الصراع من أجل الضروريات وكل الأعمال القذرة القديمة للظهور من جديد..."
يقصد ماركس وانجلز بالجملة "كل الأعمال القذرة" اللامساواة والاستغلال والفساد والبيروقراطية والدولة وكل العلل الخبيثة المستعصية بين طبقات المجتمع. واليوم وبعد سقوط الستالينية في روسيا يحاول أعداء الشيوعية إظهار أنه ليس بالإمكان تطبيق الأفكار الماركسية في الواقع، لكنهم أغفلوا الجزئية الصغيرة المتمثلة في أن روسيا قيل 1917 كانت أكثر تخلفا من الهند الحالية، لكن لينين والبلاشفة، الذين كانوا ملمين بأعمال ماركس، كانوا مدركين أن الظروف المادية للشيوعية غير موجودة في روسيا، لكن لينين وتروتسكي لم يكن يدر في خلدهما أبدا فكرة الثورة القومية و"الشيوعية في بلد واحد", وبالخصوص في بلد متخلف كروسيا.
لقد توصل البلاشفة إلى السلطة سنة 1917 بنظرة لثورة عالمية. ولقد كانت الثورة أكتوبر حافز قوي لباقي أوروبا، بداية بألمانيا أين كان من الممكن للثورة أن تنجح لولا تدخل الجبناء الخونة من قادة الشيوعيون الديمقراطيون الذين أنقذوا الرأسمالية. لقد دفع العالم ثمنا باهظا لهذه الجريمة فإلى جانب الرجة الاقتصادية والاجتماعية أثناء عقدي ما بين الحربين كان هناك انتصار هتلر في ألمانيا والحرب الأهلية في إسبانيا وأخيرا الرعب الذي سببته الحرب العالمية الجديدة.
ليس هذا بمكان لتحليل كامل العملية التي حدثت بعد 1945، لكن يكفي القول أن الرأسمالية نجحت لبعض الوقت، بواسطة الطرق التي سبق ذكرها، في إعادة بناء ثبات نسبي، على الأقل في الدول الرأسمالية المتقدمة كأوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة الأمريكية، لكن حتى في هذه الفترة، لا يزال التناقض الأساسي واضحا. كانت هذه السنوات بالنسبة لثلثي البشرية، سنوات جوع وبؤس وحروب وثورات وثورات مغدورة لكن، على الأقل في البلدان الصناعية كانت هناك بطالة كاملة وحالة من الرخاء وارتفاع عام في مستوى المعيشة.
يقدم كل هذا تصديقا لفكرة القادة العماليين (اليمينيون واليساريون) بأن الرأسمالية حلت مشاكلها وأن البطالة الجماعية أصبحت في ذكر الماضي وأن الصراع الطبقي انتهى وأن (بالطبع) الماركسية أصبحت من الطراز القديم، لكن رغم أن هذه الأفكار أصبحت تثير السخرية اليوم مع أكثر من 30 مليون عاطل عن العمل في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والهجوم الإنقاذي في كل مكان على مستوى معيشة العمال،فالتناقض بين الطبقات في حدة مستمرة. في أوروبا كان هناك إضرابا تلو الإضراب في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا. انتهى الإضراب العظيم لعمال اليو بي آس UPS في الولايات المتحدة الأمريكية بنصر، وكان بمثابة التحذير بأن العمال الأمريكيين ليسوا على استعداد لقبول المزيد من الأجور الزهيدة والظروف السيئة في سبيل الربح الفاحش. في بريطانيا أيضا كان انتخاب حكومة عمالية بعد 18 سنة من حكم المحافظين علامة على تغير جذري في نفسية المجتمع.
"الوجود الاجتماعي هو الذي يعدد الوعي" هذه فكرة مهمة أخرى من أسس الجدلية التاريخية. آجلا أم عاجلا ستنتج الظروف الاجتماعية تغييرا في وعي الناس. لكن على الرغم من ذلك فالعلاقة بين المراحل التي تقع في المجتمع والطريق الذي تنعكس عليه في عقول الناس ليس أوتوماتيكيا، وإلا لكنا نعيش تحت الشيوعية منذ وقت طويل. فعلى عكس تصورات المثاليين، الأفكار الإنسانية عموما ليست متقدمة بل محافظة جدا. فالناس يميلون في الفترات "العادية" إلى التشبث بالأشياء المألوفة ويفضلون الإيمان بالأفكار والأخلاق والمؤسسات والأحزاب والقادة الذين أصبحوا متعودين عليهم.
قال انجلز ذات مرة أن هناك فترات في التاريخ تمر فيها العشرون سنة وكأنها يوم واحد وأخرى يمكن أن تُختزل فيها العشرون سنة في 24 ساعة. يبدو وكأن لا شيء يتغير لفترة طويلة، لكن تحت سطح الهدوء الظاهر يوجد هناك بناء هائل من الاستياء والسخط والإحباط والحنق. في لحظة ما، سيؤدي هذا إلى انفجار اجتماعي. يبدأ الناس في لحظات الأزمات في التفكير في أنفسهم والتحرك كرجال ونساء أحرار، كأبطال لا كضحايا سلبيين. يحاولون البحث عن وسائل للتعبير وينشطون في النقابات والاتحادات والأحزاب التكتلية في محاولة لتغيير المجتمع.
هناك قسم هام من بيان الحزب الشيوعي لم يفهم بما فيه الكفاية، حيث يمكننا قراءة الآتي:
"ماذا يمثل الشيوعيون للبروليتاريا ككل؟ لا يكوّن الشيوعيون حزبا منفصلا معارضا للأحزاب العمالية الأخرى، فهم لا يملكون مصالح منفصلة عن البروليتاريا ككل. إنهم لا يؤسسون أي أسس طائفية يشكلون على أساسها الحركات البروليتارية.
يتميز الشيوعيون عن بقية الأحزاب الطبقة العاملة بهذا فقط: 1. في الصراع العالمي لمختلف بروليتاريا العالم يشيرون ويسلطون الأضواء على المصلحة المشتركة لكل البروليتاريا بصرف النظر عن أي جنسية. 2. في مختلف مراحل التطور التي لا بد لصراع الطبقة العاملة من خوضها ضد البرجوازية يمثلون دائما وفي كل مكان مصالح الحركة ككل.
الشيوعيون إذا من جهة وبالخصوص هم أكثر قسم أحزاب الطبقة العاملة تقدما وثباتا في جميع البلدان، ذلك القسم الذي يدفع كل الآخرين إلى الأمام، ومن جهة أخرى، نظريا، هم يمتازون عن الكتلة الضخمة للبروليتاريا بالفهم الجيد لخط المسيرة والظروف وآخر النتائج العامة لحركة البروليتاريا.
تعتبر هذه الخطوط ذات أهمية كبرى لأنها تظهر طريقة ماركس وانجلز ترحل من الحركة الحقيقية للطبقة العاملة كما هي وليس كما نريدها أن تكون. هذه الطريقة بعيدة آلاف السنوات الضوئية عن الطائفية المجدبة لشيعة "الثوريين" تلك التي تنمي وجودا
الحزب بالنسبة للماركسيين هو أولا برنامج وأفكار ووسائل وتقاليد ثم فقط بعد ذلك هو منضمة لحمل تلك الأفكار للطبقة العاملة. من خلال التاريخ خلقت الطبقة العاملة منضمات تكتلية للدفاع عن مصالحها وتغيير المجتمع. بداية بالنقابات العمالية، المنضمات الأساسية للطبقة في لحظة ما تمكن العمال من فهم أن النضال من أجل مطالب اقتصادية جزئية هو في حد ذاته غير كاف. في الظروف الحالية، لا يمكن الفرار أبدا من هذه الحقيقة، فبدون النضال اليومي للتقدم تحت الرأسمالية ستكون الثورة الشيوعية مستحيلة. من خلال تجربة الإضرابات والمسيرات تعلمت الطبقة العاملة واكتسبت حسا لقوتها الذاتية. لكن، كل هذا غير كاف. فحتى أصلب وأكثر الإضرابات نجاحا لا يمكنه حل المشاكل الأساسية التي تواجه الطبقة العاملة. زد على ذلك أن مع كل إضراب ناجح هناك عدد كبير من الهزائم، فحتى ولو انتهى الصراع إلى النصر فالزيادات في الأجور سيسحقها التضخم المالي. هذا يعني أن ما يقدمه الرأسماليون باليد اليسرى يستردونه باليمنى. لقد عَوِّضت الإصلاحات في فترة أزمة الرأسمالية بمضادات للإصلاحات أي كما نرى اليوم مع حكومة بلار Blair. وفي هذا الكثير من المنطق، فإذا ما قبل أحدنا النظام الرأسمالي فيجب عليه أن يقبل أيضا القوانين الرأسمالية. إذا ما قلت "أ" يجب أن تقول أيضا "ب" و"ج" و"د". فالبطالة والخصخصة وقطع النفقات الاجتماعية كلها تطفوا من الأزمة العامة للرأسمالية. هذا سؤال سياسي لا يحل عبر التحركات الصناعية لوحدها رغم أهميتها. يجب الذهاب إلى ما وراء حدود نشاطات الاتحادات النقابية والمرور إلى مستوى النضال السياسي.
لقد خلقت الاتحادات والتكتلات الحزبية العمالية بفضل العمال على مر أجيال من النضال والتضحية. ولقد أظهر التاريخ أن العمال لن يتخلوا عن منظماتهم التكتلية التقليدية قبل اختبارها على أرض الواقع مرارا وتكرارا. فمنذ قرابة القرن، خلقت النقابات العمالية الحزب العمالي من أجل تمثيل الطبقة العاملة في البرلمان. لقد خُلق الحزب العمالي كتعبير سياسي للاتحادات، لكن المنضمات التكتلية لا توجد بمفردها على الساحة، بل هي دائما تحت ضغط الطبقة الحاكمة التي تحوز بقبضتها وسائل الإقناع القوية – الصحافة والتلفزيون والكنيسة وألف طريقة أخرى للضغط مما يؤثر ويفسد ممثلي العمال، والفضيحة الأخيرة حول هدية المليون جنيه إسترليني التي قدمها أحد رجال الأعمال لحزب العمال هي حصاة صغيرة من جبل هائل، فرجال الأعمال لا يقدمون مثل ذلك المبلغ من أجل لا شيء. حتى إذا ما استبعدنا الفساد، يبقى ضغط المشاريع الكبرى قوي على قادة أحزاب العمل. أما قادة اليمين فلا مشكل يواجههم في تكييف أنفسهم مع هذه الضغوطات، لأنهم أنفسهم يعتنقون النظام الرأسمالي من صميم قلوبهم. إنه لأمر يدعو إلى السخرية تمجيدهم لـ"السوق" وبالتحديد في لحظة بداية انهياره. فقادة أحزاب اليمين يحاولون بكل عمى أن يؤسسوا أنفسهم على الرأسمالية المنتهية. إنهم يمثلون الماضي لا المستقبل. ورغم أنهم يعتبرون أنفسهم كواقعيين عظماء، إلا أنهم في الحقيقية من أسوأ أنواع الطوباويين، أما استنادهم لأحزاب العمل فسينهار خلال الأحداث المقبلة.
على الرغم من كل ذلك فموقف اليساريين الإصلاحيين ليس بالأفضل، فعلى الرغم من أنهم على حق في معارضتهم لسياسة ضد-الإصلاح المتبعة من طرف اليمين، فهم لا يقدمون على أرض الواقع بديلا حقيقيا. فهم يريدون من النظام الرأسمالي بقبولهم إياه أن يعمل بطريقة أكثر وداعة وعلى طريقة موضة جديدة أكثر لطفا. إنه كالطلب من النمر أن يأكل العشب عوضا عن اللحم. إذا ما اتّبعت كل الحكومات في العالم نفس سياسة القطع، فليس ذلك باختيارهم، بل هو تعبير منهم عن حقيقة أن الرأسمالية في أزمة عميقة. ستؤدي محاولة العودة إلى سياسة كينز في مقاومة العجز المالي إلى تفجر التضخم. أما بالنسبة للطبقة العاملة فالاختيار بين التضخم والانكماش هو اختيار بين الموت شنقا والموت مشويا فوق النار. لا نريد لا الأول ولا الثاني بل إن الحل الوحيد الحقيقي هو التغير نحو المجتمع الشيوعي.